إذا مـا جـعـلــت من الطــريــق الشـرقي بابا تـدخل من خـلاله مـدينــة قـصـــر الشــــلالـة تبدو لـك من أول وهــلة أنـهـا هــادئـة هــدوء الجـبـل الـذي تـقــع عـلى سـفحــه ، أين بـهـا أنــاس لا يـحمــلون من البـسـاطـة إلا قـلـيـلـهـا ومـن الـتـرفـع مـا يـجـعلك تضن و كأنهم يترقبون حدوث أمر لا يدركه أحد سواهم، الشيء الذي يطير بخيالك بعيدا لينسج حوله مشاعر قوية تدعوك إلى طلب مجالستهم و كأنك على علاقة بهم منذ أمد بعيد
فبرغم الموقع المنعزل للمدينة الجاثمة بين ماضي سياسي عظيم ضمته أوراق الحركة الوطنية ذات يوم، وحاضر متناقض حبكته يد الماضي الذي لولاه ما انطوى تاريخها بين رفوف مكتبة النسيان و أدراج تصفية الحسابات التي لم تكن في حد ذاتها العائق أمام العظماء من أمثال أبي سلهام الفاطمي، هذا العالم الذي استقر به المقام بين أهلها مدة من الزمن فكان فيهم السراج المنير والإمام المرشد.
إن الحديث عن واحد كهذا العلامة القدوة، للأمر يوحي بالتأكيد إلى عجز اللسان عن التعبير، والقلم من التسطير، وليس من السهل أبدا إيفاء الرجل حقه والإحاطة بمناقبه كلها، لكن وحتى لا نخطأ في حقه أو نتجاهل ما حباه الله من علم و تبصر لا يسعنا إلا أن ننوه بفيض علمه ونغرف من ماء بحره ولو شذرات قليلة نلج بها عتبة الزمن حتى لا تكن آثاره نسيا منسيا ونحسب يوما من المفرطين غير المبالين لقيمة العلم والعلماء.
صفاته
للرجل سيمات علم تأخذه من كل جانب وتميزه عن غيره بتلك الهيئة التي كان يحملها بين عبارات التواضع والاجتهاد الدائم في السعي إلى نشر العلم بين المتعلمين.
كان حافظا للقرآن، فصيح اللسان، مدركا لكل ما يتفوه به من لغة وبيان، فإن نسب بيتا من الشعر إلى شاعر ما في ذاك هو الصدق بعينه، وإن قال قال الشاعر فاعلم أن ذلك من نتاج ما جادت به قريحته ، وإذا ما سألت عنه كل من عاصره أو تشرف بزمالته أبلغك عن مليون و مائتين وخمسة وسبعين ألف بيتا من الشعر كان يحفظها.
إن الشيخ العالم أو الخزانة المتنقلة كما يحلو للذين ممن عرفوه بتسميته، قد استغل فترة ترحاله بين المغرب و تونس و مصر و سوريا في التعرف على كثير من أهل الفضل على هذه الأمة ، فكان متأثرا بمجدد القرن العشرين الشهيد حسان البنا لأنه عرف عنه الكثير فأعجب بدعوته، وهذا الشيخ عبد الحميد الكشك لا ينسى أن يبلغه سلامه مع كل جزائري تفضل بزيارة بيته ، وهذا مفتي القناة الثانية للإذاعة المغربية كان لا يجيب على أسئلة الجزائريين معللا ذلك بوجود الشيخ أبي سلهام بينهم وأنه لا يقدر أن يتجرأ على الرد عنهم قبله ، من هذا كله ندرك أنه كانت للرجل مكانة خاصة بين الكثيرين من العلماء الذين بادلهم و بادلوه التقدير و الإجلال.
المولد و النشأة
ولد سنة 1930 في مدينة الرباط من أب جزائري وأم تونسية لم يتجاوز التاسعة من عمره حتى أتم حفظ القرآن الكريم. زاول تعليمه في جامع القرويين بفاس لينتقل بعدها إلى جامع القيروان بتونس ضمن بعثة إليه ، ليواصل طلبه للعلم في جامع الزيتونة ، و بعد التخرج بشهادات متنوعة فقهية و أدبية مشفوعة بملاحظات شرفية عالية تدل على جده و تفوقه البارز.
التحق بعداها بجامع الأزهر كلية الشريعة والقانون بالقاهرة، فكان له منها شهادة الليسانس بدرجة جيد.
وبعد هذا المشوار الدراسي الطويل، عاد إلى المغرب الأقصى لينصب قاضيا للقضاة من طرف ملكها محمد الخامس لمدة سنة، ثم يعينه في أمانة القصر كاتبا له.
وفي إحدى إجازاته عاد إلى وطنه الأصلي الجزائري فطاب له المقام به ، فتزوج وقرر البقاء فيه ، حيت تسلم وظائف عدة دينية منها و تعليمية لاقى في التحصيل عليها ــــــــــ لا يليقان بقدره ،فشغل منصب مفتش عام لوزارة الشؤون الدينية ، ثم عين أستاذا في ثانوية عبد الكريم فخار بالمدية ، فأستاذا للأدب العربي بجامعة وهران.
و أخيرا ألقى بعصاه بمدية قصر الشلالة التي ختمت ترحاله الطويل الحافل بالتحصيل العلمي والعطاء الكبير لأبناء الأمة ، فأنشأ مدرسة حرة استفادة زمرة من شباب المدينة و غيرها من المدن المجاورة لها ثم درس بالثانوية الوحيدة آنذاك مدة من الزمن
كان حرصه على تبليغ دعوته الإصلاحية، ظل كثيرا دائم التدريس بالمساجد والمجالس إلى أن وافته المنية إثر مرض مفاجئ لفظ فيه أنفاسه الأخيرة يوم 3 جويلية 1984 م .
ترك ورائه مخطوطات ضخمة صهر من أجلها الليالي الطوال فكانت متنوعة من أدب و لغة و دين فقهي تنتظر كلها الإذن بالنشر، نذكر من بينها (كتاب علم العروض) الذي خرج من زاوية التكديس إلى دار الشهاب حيث سيصدر قريبا بالإضافة إلى هذا هناك كتب أخرى هي: علم أصول الفقه ، التراث العربي التشريعي ، الفنون الأدبية ، شرع الإسلام العتق ولم يشرع الرق ، فتاوى الشيخ أبي سلهام ، الطلاق بين النزعات الانحلالية والعصمة المذهبية ، نظرية الفن بين أرسطو والعرب ، عروبة السلام ، مواطن الاجتهاد في الشريعة الإسلامية ، الجمال الفني في البلاغة النبوية ، الأدب والأديب ، سر النبوغ في الأدب ثم أخيرا كتاب : (أصول حكم في السلام ) .
من تحرير السادة : ــ بهاء الدين (إبن المرحوم )
ــ عميار محمد (استاذ بقصر الشلالة
ــ عباسي عيسى (أستاذ بسيدي العجال